دعونا نضع النظارات
وعندما يأتي أحدهم بنفسٍ مضطربة إلى العيادة، فالذين يأتون بهم هم الأصدقاء أو الأقارب أو الأخوة، وليس الأهل...
إذا كان الحبُّ أعمى، دعونا نضع النظارات
هذا المقال يتكلَّم عن الحب – ألحبُّ الأبوي بالتحديد. لكن قبل أن أغوص في الموضوع سأشارككم هذه القصة التي حدَثَتْ فعلاً.
وهذه القصَّة عن فتاة تدعى فاتن، وهي الآن سيِّدة بالغة، تتمتَّع بصحةْ جيِّدة، وتحظى بزواجٍ سعيد.
لكنَّ فاتن، وعندما كانت في سن المراهقة، كانت تعاني من إضطراب في الطعام، وعندما بلغَتْ سن العشرين، أرسلها والداها إلى مركزٍ لإعادة ألتأهيل. وكانت رحلة حادَّة ومُكثَّفة. لكن ومع مرور الوقت، شُفِيَتْ فاتن تماماً، وحظيتْ بفرصةٍ جديدة في الحياة في نهاية المطاف.
إن قصتها هذه ليستْ "غير مألوفة"، لكن الذي جعل منها قصةً فريدة، هو كيف حصلَتْ فاتن على العلاج. لم يكن والداها هما اللذان واجها قضيتها، وحتى لم تكن هي نفسها من واجه القضية. ففيما كان والداها على علمٍ بوجود مشكلة، لم يكونا على إستعدادٍ لمواجهة ما يحدث، أو على الأقل لم يُظهِرا ردَّة فعلهما. حتى عندما تدخَّل أصدقاء فاتن، وإنخرطوا في مواجهة الموضوع، فإنهما لم يحرِّكا ساكنا.
وقد لاحظ أصدقاء فاتن إنزلاقها إلى مكانٍ خطِر، فتجمَّعوا معاً لمواجهة الوالدين وإخبارهما بما يحصل. وقد قالوا لهما بأنهم لا يستطيعوا أن يقفوا مكتوفي الأيدي، وهم يراقبون ما تفعله فاتن بنفسها. وقالوا إنَّ مرضها خطير، وإن لم يفعل والداها شيئاً في الموضوع، فإنَّ فاتن ستموت حتماً.
وللحال أطلق والدا فاتن نداء إستغاثة ومساعدة، وحوَّلوها إلى أخصائيين مدرَّبين. وهذا التدخّل أنقذ حياة فاتن.
وعندما أفكِّر بهذه القصة، أرفع القبَّعة تحيةً وإعجاباً بأصدقاء فاتن... فأنا في مثلِ سنِّهم، كُنتُ مجهولة نسبيّاً. وكنتُ أتجنَّب المواجهة مهما كلَّف الأمر. لم أكن أستوعب نفسي أيضاً، وعلى الأرجح كُنتُ جاهلة لكي أدرك وأميِّز تلك الحالة المُلِحَّة والعاجلة... وباختصار، فإنَّه لمن الجميل أنَّ مصير فاتن لم يكن بين يدي شخصٍ من أمثالي، لأن شخصاً مثلي، قد يتَّخذ الطريق الأقلّ مقاومة، على أمل أن المشكلة تسوِّي نفسها بنفسها.
لكنَّ مشاكل كتلك التي مرَّت بها فاتن، لن تُحَلَّ من تلقاء ذاتها. فهي تكبر وتكبر إلى أن يقول أحدهم "كفى".
وإن كُنتَ تظن أنَّ الوالدين سيقومان أوّلاً بعمليَّة الإنقاذ، فمن الضروري أن تُراجع تفكيرك. وفي حالاتٍ كثيرة، فإنَّ الوالدين هما عاملا المساعدة الأسوأ. وأنا أقولها عن إختبار، أنَّ الأهل وفي كثيرٍ من الأحيان، هم آخِرُ من يعلم... أو يعترف بقضيَّةٍ تخصُّ أولادهم، على الرغم من وجود الدليل.
وهذه الحقيقة في الأبوّٓة، معروفَةٌ ومُشاعة ضمن دوائر الإرشاد. وكما سمعتُ أحد الأخصّائيين النفسيين يقول، إنَّ ٨ من بين ١٠ مرات، وعندما يأتي أحدهم بنفسٍ مضطربة إلى عيادته، فالذين يأتون بهم هم الأصدقاء أو الأقارب أو الأخوة، وليس الأهل. وهذا ليس بسبب أننا لا نحب أولادنا. فنحن بالتأكيد نحبهم. لكنَّ الإعتراف بأنَّ أحد أولادنا لديه مشكلة، فهذا أمرٌ مؤلمٌ.
وهذا يدعو إلى إستجواب مهارات الأبوّٓة لدينا. وما لم يُفضَحُ الأمر وتصرخ الحقيقة المُرَّة، فإنه من الأسهل لنا أن نترك تلك الصخرة غير مقلوبة، على أن نُمسِك بها ونرفعها لنرى ماذا يتربَّص تحتها.
وهكذا نتابع إنكارنا، ويجنُّ جنوننا على هؤلاء الذين يبدون قلَقهم، ونتجاهل علامات التحذير التي تدعونا للبحث والتحقيق. كذلك فإنَّ الأهل الذين يُعَدّون بأنهم آباء جيِّدون، فقد يكونوا متغافلين وغير واعين أيضاً، وهذا بسبب أنَّ التغييرات التي تحدُثُ مع أولادهم قد تحدث بطريقةٍ تدريجيَّة.
بالإضافة إلى هذا، فإنَّ الأهل يعملون من مُنطَلَق عواطف جيّاشة. فنحن نحب أولادنا بجنون، ونضعهم في مراتب عالية، ونُعْجَب بهم، وننظر إليهم من خلال عدَسات ملوَّنة بألوان الورود. وفي ظلِّ هذه الحقيقة المُنحرِفة، فإنَّ قابليَّتنا للوقوف بموضوعيّٓة، ننظر إلى أولادنا، ونراهم كما هم بالحقيقة، فهذا أمرٌ يُمْكِنُ منعه وإعاقته. وقد يكون من السهل خداعنا، وقد نقف موقف المُدافع على الأرجح، عندما ترتفع صيحات الإنتقاد.
هذا هو الجزء الأوَّل من الموضوع. في المرَّة القادمة بإذن الله سوف نتناول موضوعاً بعنوان "أولادنا ليسوا بكاملين"..
الحقيقة, المشاكل, مساعدة, الحب الأبوي, الحب الأعمى
- عدد الزيارات: 3352