من التّسامح إلى القبول
الأول يضمر الإقصاء.. والثاني يعترف بالتعدُّدية. علّمتنا اللسانيات ولاسيّما علم الدّلالة منها أنّ للكلمات نوعين من المعاني:
معنى مرجعيّاً يحيل على موضوع الكلمة حسّيّاً كان أم مجرّداً، ومعنى التزاميّاً يحيل على الدّلالات الحافة المتّصلة بالكلمة كأن يحيل اللون الأحمر مثلا على الخطر أو أن تحيل الشّمس على النّور. وعادة ما تصّنف المعاني الإلتزاميّة إلى معان إيجابيّة ومعان سلبيّة. ومن اللّطيف أنّ كلمة «التّسامح» الّتي غدت اليوم شائعة الإستعمال، يمكن أن تُقرأ دلالاتها الحافة إيجاباً وسلباً.
تحيل كلمة التّسامح من حيث جذرها الإشتقاقيّ: (س،م،ح) على السّماحة بمعناها المعجميّ ذي الحقل الدّلاليّ الإيجابيّ تساهلا وليناً (لسان العرب، جذر س،م،ح)، وبهذا المعنى للتّسامح يتحدّث الإعلام والرّأي العامّ اليوم عن التّسامح بين الأديان والمعتقدات المتنوّعة.
غير أنّ هذا المعنى الظّاهر لكلمة «التّسامح» يخفي معنى ضمنيّاً لا ينفذ إليه العقل إلاّ عبر التّأمّل وينفذ إليه اللاّوعي حدساً. هذا المعنى متّصل بوزن الكلمة والفعل المتعلّق بها، وهو وزن «تفاعل». فهذا الوزن يفيد الإشتراك شأن قولك: تعانق وتحابّ وتعارف، ولكنّه يفيد أيضاً التّظاهر بغير الحقيقة. وهذا شأن الفعل: تجاهل يفيد التّظاهر بالجهل، أو تعالم يفيد التّظاهر بالعلم. بل إنّ النّحاة العرب القدامى يشير بعضهم إلى أنّ هذا التّظاهر يستدعي بذلا للجهد لتبيان الصّورة المرجوّة الّتي هي ظاهر مخالف للحقيقة.
ولا يذهبنّ في ذهنك أيّها القارئ الكريم أنّنا نروم تقديم درس في اللّغة، غير أنّه ولمّا كانت اللّغة هي الّتي تنشئ تمثّلاتنا للعالم وترميزنا له، فإنّ تحليلها يكشف عن كثير من أسرار سلوكنا ومعاملاتنا ومخيالنا.
ومن هنا فإنّ المعنى الضّمنيّ الّذي تحيل عليه كلمة «التّسامح» هو الّذي يعنينا. فبعض النّاس يستعمل هذه الكلمة بما يوحي أنّه مضطرّ أو مجبر على بذل جهد للتّسامح مع من يحمل فكراً مختلفاً أو عقيدة أخرى. وكأنّ على المتسامح أن يتعطّف ويتكرّم ويتنازل ويكره نفسه على السّماحة في التّعامل مع المختلف في حين أنّ الأصل هو رفضه وإقصاؤه وإلغاؤه إن لم يكن فعليّاً فعلى الأقلّ رمزيّاً. ولا تتفرّد اللغة العربيّة بهذا المعنى الضّمنيّ ذلك أنّ المرادفين الفرنسيّ والإنجليزيّ لكلمة التّسامح وهما «tolérance» و»tolerance» لا يخلوان من الدّلالات الإلتزاميّة الّتي تفيد بذل الجهد بل التّعطّف للتّسامح مع الآخر. ولعلّ وجود معنيَيْ الجود والكرم ضمن معاني التّسامح المعجميّة يؤكّدان هذا الحقل الدّلاليّ.
أبعاد دلالية
ولا شكّ أنّ هذه الأبعاد الدّلاليّة للتّسامح لم تأت من فراغ وإنّما منطلقها تصوّر ضمنيّ مفاده أنّ هناك فريقاً أو جماعة هم على صواب وأن هناك فريقاً أو جماعة هم الآخرون الّذين هم على خطأ. ولئن كان بعض النّاس -عبر التّاريخ وإلى اليوم- يتقاتلون بطرق وأشكال شتّى في سعي إلى إلغاء من يتصوّرونه مختلفاً، فإنّ بعضهم الآخر أصبح يدعو إلى التّسامح مع المختلف بما لا يعني تصوّر أنّه يمكن أن يكون على صواب، ولكن بما يعني التّكرّم والتّعطّف بهدف عدم إيذاء من هو على خطأ من باب سماحة النّفس وجودها.
إنّنا لا ننكر أهمّية التّطوّر البشريّ في المرور من السّعي إلى إقصاء الآخر في مرحلة أولى إلى إجبار النّفس على التّعامل مع الآخر وقبول وجوده مكرهة بشكل من الأشكال في مرحلة ثانية ، ولكنّنا نعتقد أنّ الفعل الأجدى في تحقيق التّعايش بين البشر على تعدّدهم واختلافاتهم هو فعل نفسيّ يؤسّس لإعادة النّظر في ثنائيّة الأنا والآخر.
يشيع أن يتصوّر المنتمون إلى دين مّا مثلا أنّ دينهم هو الطّريق الوحيد الصّحيح. وتجدهم يسعون إلى نشره ودعوة الآخرين إلى إعتناقه وإتّباع تعاليمه. وليس في هذا الأمر إشكال في ذاته ذلك أنّ طبيعة التّعايش بين البشر تقوم على التّفاعل وعلى سعي البعض منهم إلى إقناع البعض الآخر بفكرة أو موقف.
متى يبدأ المشكل إذن؟
يبدأ المشكل عندما تتصوّر مجموعة مّا أنّ الآخر المختلف إمّا أن يصبح مماثلا للمجموعة يدين بدينها ويرى رؤاها ويقف مواقفها أو أنّه يستاهل الإلغاء والإقصاء أو الشّتم والسّبّ في أضعف الأيمان. ويترسّخ المشكل عندما تجنح مجموعة مّا إلى سلوك فعليّ يهدف إلى إلحاق الأذى بالآخر المختلف. ويدخل في هذا المجال بعض ما يحصل هنا وهناك في العالم من أعمال إرهابيّة تعتدي على المقابر أو على الأشخاص أو على بيوت الدّين أو على مراكز التّرفيه. ويبلغ المشكل أوجه عندما يصبح القائمون بترهيب الآخرين والمعتدون عليهم أصحاب إيديولوجيا و»نظريّة» تبرّر للعنف وتعتبره مشروعاً بل محموداً.
على أنّ هذا الضّرب من الإرهاب على خطره وإنتشاره ممّا يتّفق العقلاء على مقاومته والتّصدّي له بالوسائل الملائمة والأساليب النّاجعة. أمّا الضّرب الأخطر فهو أن تجد بعض النّاس يبدو ظاهريّاً أنّهم لا يسعون إلى إقصاء الآخر فعليّاً بالتّعنيف، ولكنّهم في واقع الأمر يقصونه رمزيّاً إذ يتصوّرون أنّ تسامحهم إزاءه مزيّة وكرم منهم.لذلك أشرت في بداية المقال إلى احترازي النّسبيّ من مصطح التّسامح. وأفضّل على إستعمال مصطلح «التّسامح» استعمال كلمة «القبول» لا تدلّ ظاهراً ولا ضمنيّاً على إجبار النّفس على التّعايش مع الآخر. إنّ مفهوم القبول هذا ذو جذور فلسفيّة وروحانيّة عميقة في الفكر والفلسفة البشريّين. ويكفي أن نضرب مثالين شائعين أحدهما من ثقافة العرب المسلمين وثانيهما من ثقافة الغرب المسيحيّ. يقول الشّافعي: «رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصّواب»، ويُنسب إلى فولتير القول: «لست أوافقك الرّأي لكنّي أدفع عمري ثمناً لحرّيتك في التّعبير عن رأيك». إنّ كلاّ من الشّافعي وفولتير - ولا يهمّنا شخصهما بقدر ما يهمّنا بعد تمثّلهما الرّمزيّ للأنا والآخر- يضع رأيه وموقفه من جهة ورأي الآخر وموقفه من جهة أخرى في نفس المستوى. لا يعني هذا أنّ رأي الأنا ورأي الآخر واحد من حيث المضمون ولكنّه يعني أنّ رأي الأنا ورأي الآخر واحد من حيث القيمة. فليس هناك موقف بأَوْلى من موقف آخر ولا رأي بأَوْلى من رأي آخر. وكلّ النّاس يُؤخذ عنهم ويُردّ. إنّ هذا الموضع هو موضع الشّخص المتواضع الواعي بأنّ المعرفة المطلقة هي للّه تعالى وحده وأنّ طبيعة الحياة البشريّة أن تقوم على الاختلاف وعلى تعدّد وجهات النّظر وعلى كثرة الرّؤى والمقاربات. ولكنّ ما يجب أن يجمع هذه الرّؤى كلّها هو وعي عميق بأنّها جميعها قراءات بشريّة نسبيّة، وأنّ القول الفصل ليس من سمات هذا العالم النّسبيّ المتحوّل الزّائل، وإنّما القول الفصل لله تعالى وحده. والقرآن شأنه في ذلك شأن الرّسالات الدّينيّة والرّوحانيّة الأخرى يؤكّد هذه الحقيقة إذ يكرّر الله تعالى في مواضع كثيرة من كتابه الكريم أنّ البشر يختلفون وأنّ الله تعالى هو الّذي ينبّئهم بما اختلفوا فيه، وهو عزّ وجل لا ينبّئهم بالحقيقة في هذه الحياة النّسبيّة جوهراً، وإنّما بعدها. يقول الله تعالى: «فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون» (البقرة2، 113)- «ثمّ إليّ مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون» (آل عمران3،55)- «إلى الله مرجعكم جميعاً فينبّئكم بما كنتم فيه تختلفون» (المائدة5، 48)- «ثمّ إلى ربّكم مرجعكم فينبّئكم بما كنتم فيه تختلفون» (الأنعام6، 164)- « إنّ ربّك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون» (يونس10، 93)- «وليبيّننّ لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون» (النّحل16،92)- «الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون» (الحجّ22، 69)- « إنّ ربّك هو يفصل بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون» (السّجدة32،25)- «إنّ ربّك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون» (الجاثية45،17).
إنّ تكرار إسناد فصل الإختلاف بين البشر إلى الله تعالى وحده لا يمكن أن يكون عفواً، وإنّما هذا التّكرار هو من حكمة الله تعالى إذ أنّه عزّ وجلّ يعلم عسر قبول الغير من قبل بعض النّفوس البشريّة الميّالة إلى النّمطية والقلقة من وجود الإمكان الآخر.
إنّ مفهوم القبول الّذي ندعو إلى إفشائه ونشره بين النّاس ليس يعني تحوّل النّاس جميعهم إلى نُسخ من بعضهم بعضاً بل على عكس ذلك، فالقبول يعني التّسليم بأن لا أحد هو نسخة من الآخر. إنّه يعني الوعي بما هو موجود غصباً عنّا من اختلاف جوهريّ بين البشر. إنّه يعني قبول إرادة الله تعالى في الكون بصفتها وجهاً من وجوه حكمته في الخلق. إنّ قبول الآخر هو في جوهره تواضع المخلوق أمام الخالق، تواضع الجاهل أمام العالم، تواضع النّسبيّ أمام المطلق، تواضع الزّائل المتحوّل أمام الخالد الثّابت. إنّ إبن عربي إذ يقرّ بأنّ الطرق إلى الله تعالى هي بعدد أنفس الخلائق لا يفعل شيئاً سوى أن ينحني أمام إرادة الله تعالى أن يكون البشر متفرّدين لا يشبه الواحد منهم الآخر إلاّ بما يحملونه من نفخة الرّوح الإلهيّة فيهم. ومن إستطاع أن يسلّم بإرادة الله تعالى في الكون لا يمكن إلاّ أن يكون قلبه يسع العالم كلّه بتناقضاته واختلافاته وتباينه لأنّ هذه المظاهر جميعها مهما تعدّدت وتحوّلت ليست في آخر الأمر إلاّ تعبيراً عن الواحد الأحد. ومن هنا يمكن أن نقول إنّ الإنفتاح نحو الآخر وقبوله ليس تسامحاً يجبر عليه الإنسان نفسه ويطوّعها لتحقيقه وإنّما هو قبول أصليّ حاصل بالقوّة منذ خلق الكون، ولكنّ بعضهم يكابر ويرفض التّسليم به.
________
*الإتحاد- تاريخ النشر: الخميس 20 أغسطس 2015
- عدد الزيارات: 3111