الكرة الأرضيّة تحيا بنور السّلام
يتحدث الشيخ د. وسيم يوسف عن قصة حقيقية لشاب ذهب للدراسة في الولايات المتحدة الأمريكية فحدث معه ما غيّر قناعاته وأفكاره عن الدين والإسلام الحق في مقدمة رائعة جداً ...
(من رحيق الإيمان مع الشيخ د. وسيم يوسف)
روني - من رحيق الإيمان - الشيخ د. وسيم يوسف
لمناسبة اليوم العالمي للتسامح
كان عندي معاملة في إحدى الدّوائر، فذهبت قبيل صلاة الظّهر لأنجز معاملة في إمارة أبو ظبي. جلست مع الشّاب، في مواليد الثّمانين أو أواخرها. أخبرني بقصّة،...
قلت له: أنا لديّ إجازة، لكني سأذهب للعمل اليوم في حلقة "من رحيق الإيمان" لأتكلّم عن هذه القصّة. ...تأمّل إلى أين أثّرت بي.
قبيل حديثي معه، كنّا نتكلّم عن الوسطيّة والإعتدال والتّعايش...
فتحنا أنا وإيّاه مواضيع كثيرة جدًّا، ما بين رفض بعض النّاس لفكرة التّعايش، رفض فكرة بعض النّاس للمسالمة والمهادنة إلى النّهاية، وكيف أنّ دائمًا الفكر الوسطيّ التّنويريّ أحيانًا يُعادى. تكلّمنا بهذه المواضيع، فقال: اسمع، سأخبرك قصّة عنّي.
هو لم يؤلّفها ولم يقم بنسجها من الخيال،
هو عاش هذه القصّة ويتكلّم عن تجربته.
قال:
" أنا من مواليد منطقة (كذا)، كنت في السّابعة عشر.... ومن أشدّ النّاس، ربّما في نظري، تشدّدًا.
تصوّر كان عندي في جهاز الكمبيوتر، أوّل ما تفتحه تجد الخلفيّة (background) ل "بن لادن". ونصف اللّوحة ل "خطّاب" الشّاب الّذي في الشّيشان. كنت أتابع الشّيشان وسيراييفو وفلسطين تناديكم... وحدث ما حدث في عام 2001، 11 سبتمبر. فرحت فرحًا شديدًا، ورأيت أنّ بن لادن يتكلّم بصوت الأمّة، ذاك الصّوت الّذي كنّا نبحث عنه، من يعبّر عن ضعفنا وقوّتنا، صوت يتكلّم باسم الرّبّ.
فرحت لدرجة أنّي ذهبت للمدرسة، وإذ بمدرّس البيولوجيا، يقول هذا توفيق من الله، وفّق شباب القاعدة، وكذا... وفي الحصّة التّالية دخل علينا أستاذ التّاريخ ليقول أنّ الله عزّ وجلّ ذكر هذه الحادثة في سورة التّوبة على شفى جرف نهار ويوجد شارع هناك يدعى جورف هار، والله عزّ وجلّ يتكلّم في آية 9. "
وقال:
"حتّى صُبِغَت أحداث سبتمبر بصبغة إسلاميّة رهيبة، تفاعلت معها فأصبح بن لادن ذاك حلمي، المهدي المنتظر. الله ذكر أحداث سبتمبر 2001 في القرآن وفي سورة التّوبة! هذا إعجاز قرآنيّ. وقد طلبت المدرسة أن نفتخر ونقول ونتابع جاد الشّيشان.
تصوّر في هذه البيئة، تخرّجت من الثّانويّة العامّة، وإذ ببعثة لي،... للدراسة في الولايات المتّحدة الأمريكيّة.
ما بين نارين أنا! أنا، فلان، أُنقَل فجأة بلمح البصر إلى الولايات المتّحدة الأمريكيّة؟!. "
لكن، هو طموح الشّباب... أن أذهب وأسافر، وأدرس في أميركا.
"أخذت الكومبيوتر معي، ركبت الطّائرة، ذلك الكمبيوتر الّذي إن فتحته، ترى خلفيّة بن لادن. أخذته معي إلى أميركا.
عندما وصلت، استقبلتني أسرة أمريكيّة. اسم الرّجل روني، وكان كبيرًا في السّنّ. يعيش هو وزوجته فقط. استقبلني روني... وأنا الشّخص المسلم،... أنا ذاك الرّجل،... أنا كذا وكذا.. وعقليّة بن لادن تعشّش في رأسي. لا تعايش... نحن الأعلى وأنتم الأدنى.
والغريب أنّ روني أخذني من المطار وأتى بي... كنت أدفع له شهريًّا 550$، ولمّا ذهبت،
قال لي: هذه غرفتك... وهذا حمّامك. وكان كلّ الأثاث جديدًا. لكن لم أبالِ. "
"عشت بتناقض في نفسي. كان في عصر آنذاك "البال توك" (paltalk). وجدت مجموعة باسم مشايخ، ورأيت أحدًا كتب أنّه شيخ كذا. وقلت له، يا شيخ، أنا الآن أحيا مع أسرة مسيحيّة. أدفع لهم 550$ شهريًّا في الولايات المتّحدة، ما حكم إقامتي عندهم؟ أجاب الشّيخ: أنت تسأل عن حكم إقامتك مع أسرة مسيحيّة؟ وأنت تعيش بين ظهرانيّ الكفّار؟،
أنت سفرك حرام! حياتك حرام! ارجع إلى بلادك! إلى البلاد العربيّة. "
"عشت في توتّر نفسيّ. كنت أرى أنّ هذا الّذي يمثّل الإسلام.
وكتبت للشّباب في ال paltalk، أنا كذا كذا، وأعاني من كذا، فماذا أفعل؟
ودخلت عليّ الفتاوى.... من كلّ حدب... وصوب...
منهم من قال في سبيل العلم،
ومنهم من قال ارجع...
فبدأت عندي فكرة الخلاف. لماذا بحثت عن الخلاف؟ "
لماذا بحث عن الخلاف؟
لأنّه يريد الآن الخلاف!
لا يريد قولًا يحجّم طموح هذا الشّاب،
لا يريد قولًا يبعثر أماني هذا الشّاب. يريد قولًا يناسب طموحه ما لا يخالف دينه...
"فلمّا وجدت أنّ هناك خلافًا بين أقوالهم، وكلّ إنسان يقول أنا تلميذ، فرجعت وقرأت تفسير سورة التّوبة لأنّها أكثر آية تكلّمت عن أحكام القتال، قرأت تفسيرها بكلّ كتب التّفاسير.
بحثت لدرجة أصبحت كأنّي أنا في تخصّص شرعي، قرأت كلّ التّفاسير الّتي تتكلّم عن سورة التّوبة. "
"عشت على مضض بصحبة العجوز روني وزوجته. جلست معهم، وهم يأكلون لحم الخنزير، فأخبرتهم (وأنا أدفع 550$ شاملًا مع التّنظيف والطّعام)، أنّي أدفع 550$ وأنا أكلي حلال.
فقالت له تلك العجوز: وما هو طعام الحلال؟ اشرح لنا."
"قلت: أنا لا آكل لحم الخنزير، والذّبح يجب أن يكون بالحلال، وأن وأن...
استغربت في ثاني يوم وقد أتت بلحوم الحلال! وجعلت في الثّلّاجة في الصّفّ الأوّل والثّاني كتبت "حلال" والثّالث والرّابع جعلتهما لها ولزوجها. فصلت الثّلّاجة."
كان الكومبيوتر عندي مفتوحًا دائمًا، وعندي منبّه الأذان، أستيقظ عليه.
تسألني العجوز في الصّباح، ما هذا الصّوت؟
قلت: هذا صوت الأذان، بما يتناسب معكم هو إعلان الدّخول لصلاة الكنيسة.
كان الجوّ باردًا، أخرج من منزلي، أمشي مسافة حوالي ربع ساعة، أنتظر الباص.
رآني العجوز روني، فأدار سيّارته، وأتاني وقال: يا بنيّ كيف تمشي في البرد؟
سأوصلك للجامعة. وأصبح يأخذني ويأتي بي.
وكلمة على كلمة، وحوار على حوار، أحببته.
قال لي: أنا أضعك في مثابة ابني. أنت ابني الّذي لم يرزقني الله عزّ وجلّ. أنت ولدي. "
وتابع: "في يوم من الأيّام، وأنا خارج، وإذ به يقول: تعال...
ذهبت إليه وقال: يا بنيّ، هذا مفتاح السّيّارة لك، اذهب إلى الجامعة. !
(في الولايات المتّحدة الأخ لا يعطي السّيّارة لأخيه، بسبب قوانينهم)... هذا الرّجل منحني مفتاح سيّارته!، أصبحت في صدمة!.
ترك منزله لشهور... هو وزوجته... في رحلات سياحيّة، ذهبا في ذلك الباص الحافل الّذي فيه غرفة نوم... يتجوّلان في أنحاء أميركا، تركا لي المنزل كاملًا، وثقا بي ثقة عجيبة كأنّي ابنهما! "
"وعندما فتحا موضوع الكحول، قلت: أنا ديني يحرّم عليّ أن أشرب الكحول،
فقالت لي العجوز: أنا كذلك... لا أشرب الكحول... وافتخرت بي أمام أهلها، أنّ الّذي يقطن عندنا مسلم لا يشرب الكحول. "
"أصبح فكري يرى أنّ بن لادن مجرمًا. تخيّلت لو أنّ العجوز روني كان في برج نيويورك في 2001، وقُتِل.
بأيّ ذنب سيقتل؟!
أصبحت أتخيّل لو أنّ تلك العجوز كانت في البرج، بأيّ ذنب كانت ستقتل.
أبي، أبي لم يوصلني للمدرسة، وهذا كان يوميًّا يوصلني للجامعة حتّى أعطاني السّيّارة. شعرت بحنان الأب، وتلك بحنان الأمّ. نعم، لا بديل عنهما، لكن شعرت بهذا الحنان. فما ذنبهما لو قتلا جرمًا وزورًا؟ فتغيّرت أفكاري. "
"بعد ذلك،... اتّسع نطاقي،... وتخرّجت،... وذهبت للعمل...
سكنت في شقّة في بناية. كان جاري من هنا مسيحيّ، وهذا يهوديّ، وهذا هندوسي، وهذا وذاك... وكنّا يوم الجمعة نجتمع ونأكل الطّعام الغذاء ونضحك ونمازح.
وأخبرك أيضًا بأنّ لي صديق، ليس مسلمًا، حين تزوّج ذهبت واشتريت تذكرة لأذهب واشهد حفل زفاف صديقي. وحين رآني، أُبهِر... لو كنت في تلك العقليّة كما في سنّ السّابعة عشر، هل كنت سأذهب لحضور حفل زفافه وأبهجه؟! "
هي العقول يجب أن تتغيّر، أن تتعايش. الّذي يرفض التّعايش والمسالمة والإنسانيّة، هذا ليس إنسانًا.
وعلى غرار هذا، أذكر، يقول مقدّم البرنامج:
في الجامعة، كانت توزّع علينا كتب مجّانًا. في أحد الكتب، وجدت:" لا تقولوا الأخوّة الإنسانيّة فهي كلمة كفر. فالأخوّة فقط أخوّة الإسلام، والأخوّة الإنسانيّة أدخلها أهل الصّليب وأهل العلمانيّة واللّبراليّة حتّى يقهروا الإسلام. وننفي أخوّة الإسلام، فتصبح الأخوّة إنسانيّة لا دينيّة، فيبعدون الدّين وتحتلّ الإنسانيّة وتصبح فوق الدّين. " !
هي الأفكار تتغيّر، وجدت أنّ الإنسانيّة يمتلكها فقط من يحيا بإنسانيّة.
هذا الشّاب انتقل وعلى لوحة جهازه صورة بن لادن...
ورجع وعلى لوحة جهازه الكرة الأرضيّة تحيا بنور السّلام.
ذهب وهو فرح بمقتل الألوف،
ورجع يقول الحمد لله لم يكن ذاك العجوز روني بينهم.
ما الّذي تغيّر؟
أنّه رأى وخالط وسمع وأدخل الإنسانيّة في قلبه وعلم أنّ الدّين يوافق الإنسانيّة.
(من رحيق الإيمان - الشيخ د. وسيم يوسف)
الإنسانية, الوسطية, الإعتدال, التعايش, اليوم العالمي للتسامح, مسالمة, مهادنة, الفكر الوسطي التنويري
- عدد الزيارات: 1973