Skip to main content

رحلت جدتي

…هذا هو المطبخ حيث كان ينتهي بنا الأمر جميعاً للتجمّع فيه خلال المناسبات العائليَّة؛ يا إلهي كم كان يحلو لنا الجلوس هنا حيث كانت جدَّتي تطبخ لنا ما لذَّ وطاب...

كنا نجتمع في هذه المساحة الصغيرة إلى أن يضيق بنا المكان...

رَحَلَتْ جدَّتي وبقيَتْ ذكرياتها وذكريات منزلها عالقان في ذهني. في كُلِّ مرَّةٍ أمرُّ بسيارتي من أمام منزلها، أتخيّٓلُ جدَّتي في الداخل. ورغم أنَّ البيت أصبح مأهولاً، ورغم التجديد والتحسين الذي طرأعليه؛ إلا أنَّه لم يزل في ذهني "منزل جدَّتي".

ما زالتْ صورته في ذهني هي نفسها: باب المدخل القديم وقد عُلِّقَتْ عليه هذه العبارة: "الضيوف الواقفون وراء الباب، هم الأفضل."

ولطالما ألحَّ علي شعورُ الحنين إليها، بأن أذهب لزيارة منزلها ولو لمرَّةٍ أخيرة، علَّني بذلكَ أخفِّفُ لهيب الشوق إليها والذي يُحرقني كلَّما مرَرْتُ من هناك. إلى أن تحقَّقتْ أُمنيتي وتوجَّهتُ نحو ذلك البيت بصحبة والدتي. 

وفيما نحن نهِمُّ بالدخول راودني ذلك الإحساس المرير:

ألبابُ هو نفسُهُ، والعبارة المعلَّقة هي نفسُها— لكن أين صياح التأهُّل الذي لا ينقطع؟ أين ذراعاها المتأهِّبتان للعناق الذي لا ينتهي؟؟ دخلْتُ وفي أنفي رائحة قهوتها الفوريَّة، وفي ذهني ابتسامتها وعيناها المُشِعَّتان فرحاً... 

هذا هو المطبخ حيث كان ينتهي بنا الأمر جميعاً للتجمّع فيه خلال المناسبات العائليَّة؛ يا إلهي كم كان يحلو لنا الجلوس هنا حيث كانت جدَّتي تطبخ لنا ما لذَّ وطاب...كنا نجتمع في هذه المساحة الصغيرة إلى أن يضيق بنا المكان... وها إني أسمع صوتها يرنُّ في أذني يدعونا لأن نخرج ونلعب في الخارج!!!

لم يكُن على ذاكرتي أن تبذل جهداً لكي تتذكَّرالأشياء، إلا أنَّ قلبي ومشاعري بذلا مجهوداً كبيراً للحفاظ على رباطة الجأش ومَسْكِ الدموع. حياةٌ بكاملها قد أمَّحتْ... هذه الجدَّة التي لطالما تنفَّسَتْ المحبة وزرعتها في كُلِّ مكان، لم تعُدْ موجودة... وتعجَّبْتُ لشدَّة عاطفتي وإنفعالي، وتمنَّيْتُ لو يمكنني الإنسحاب... وودَدْتُ أن أرى جدَّتي تطأ أرض المنزل للمرَّة الأخيرة...

وعندها، ربما يسمح لي أصحاب المنزل بالبقاء لمدَّةٍ أطول... مزيجٌ من شعورٍ مُتناقض: "ألإنسحاب والبقاء."

هذا الشعور الذي ينمُّ عن مدى تعلّقي بالمكان الذي أحبَبْتُه كمنزلي... لكنه لم يعُدْ منزلي للبقاء فيه أكثر... لم يكن منزلي على الإطلاق... لكنَّ تعلُّقي به ما زال هو هو كما لو كانت جدَّتي موجودة... إنَّه الحنين للشخص والتعلّق بمكان وجوده. 

فالحبُّ للمكان، ليس خَياراً أو حلماً أو قصةً رومانسية. إنَّه حقيقةٌ تشدُّنا إلى التعلُّق بمكان وجودنا البيولوجي. فنحن قد وُلدنا وفي داخلنا حبٌ للأشخاص، تماماً كما الحب للمكان وشوقنا إليه. ذلك الترابط المُعَقَّد الذي يُغَذِّي ذلك الشوق ويُشَكِّله، إلى أن نجد أنفسنا قد وقعنا في حبِّ ذلك "المكان"، دون أن ندري. 

كذلك فإنَّ محبَّة "المكان" تعني، الوجود بقربه جسدياً، كما تعني الخوف من خسارته، والحزن على إصابته أو دماره. كما إنها تعني الحفاظ عليه بشراسة فلا نغفل عنه ونعبث به. 

أن نحبَّ مكاناً يعني أن نريد له الأفضل، ونقبل المسؤولية المعنويَّة للحفاظ على أمنه ووجوده ورفاهيَّته. 

أن نحب مكاناً يعني أن نحب أرضاً...

أن نحب وطناً...

هذا الإرث الذي نتعلَّق به ونرعاه، بكلِّ ما لنا من قوة وكيان...

ألإرث الذي ورثناه عن أسلافنا وأجدادنا، ألا يستحق أن يأخذ منا الحب والإهتمام؟

ألا يستحق أن ندافع عنه بكل ما أوتينا من قوة؟؟

المحبة, المنزل, العائلة, المناسبة, الجدة

  • عدد الزيارات: 7672