Skip to main content
من أوفى؟!؟! الحجر أم البشر

من أوفى؟!؟! الحجر أم البشر

ما زال المنزل كما تركته... إنّما اكتشفت تغييرًا صغيرًا... فقد شعرت أنّه لم يعد واسعًا كما كان... هل ضاقت مساحة المنزل على مرّ السّنوات؟!؟! أمر مضحك!!! لا؟!؟!

ترعرعت في قرية صغيرة تقع على إحدى التّلال الهادئة.. يسيّجها سهل واسع.. فيه من الألوان ما يبهج النّظر ويريح النّفس... كبرت هناك في أحضان الطّبيعة.. مع رفاق الطّفولة... وحين رحلت.. تركت ذكريات تلك المرحلة هناك بين الأزقّة.. تحت الأشجار.. وفي زوايا المنزل... لكنّي لم أدرك حينها ما تركت ورائي في قلوب الأشخاص الّذين عرفتهم...

واليوم... وبعد أكثر من عشرين سنة.. أعود لزيارة تلك القرية.. وفي نفسي شوق لأرى كيف صار حال كلّ ما تركت آنذاك...  

بينما أقود السّيّارة إلى هناك.. كانت صور الذّكريات تتراقص في مخيّلتي... ولم أشعر بالوقت يمرّ من كثرة الحماس الّذي كان يعصف في داخلي... وحين وصلت... وجدت الأماكن والأشخاص.. ما زالوا هناك... إلّا أنّ ثمّة تغيير حصل... لم أعرف إذا ما كان حزنًا على الطّرقات والمنازل المهجورة أم على السّنوات الّتي قضيتها بعيدًا عن تلك البقعة من الأرض...  

ما زال المنزل كما تركته... إنّما اكتشفت تغييرًا صغيرًا... فقد شعرت أنّ باب المدخل لم يعد عاليًا كما كان... وغرفة الجلوس، مشيت في أرجائها بضع خطوات وعدت إلى مكاني... غرفة نومي!! كيف كانت تتّسع لأغراضي آنذاك؟!؟! هل ضاقت مساحة المنزل على مرّ السّنوات؟!؟! أمر مضحك!!! لا؟!؟!  

أمّا في الحديقة، فكان الأمر نوعًا ما معكوسًا... فتلك الشّجيرات الّتي كنت أتسلّقها... أصبح عليّ النّظر إلى أعلى حتّى أرى رأسها... جذوعها أصبحت متقاربة... وأغصانها تشكّل خيمة فوق أرض الحديقة!!! 

لم أهتمّ بهذه الأفكار.. وخرجت ألتقي بعض الرّفاق.. لم أرهم منذ سنوات... ويا للرّوعة!!!  

لقد كان كلّ منّا يحمل أخبارًا وأخبارًا.. لا نهاية لها... سنوات مرّت ونحن ندّخر تلك الأخبار، منتظرين الوقت لنلتقي ونستعيد الذّكريات.. وننبىء بعضنا بما حدث بينما كنّا في مناطق مختلفة... فبعدما كنّا أطفالًا صغار.. كبرنا.. كلّ منّا في عمله.. لكّل منّا عائلته.. لكلّ منّا قصصًا يرويها بفرح وحيويّة... يشارك بها الآخرين..  

وتنبّهت لما حصل!!!!  

لم تصغر مساحة البيت.. ولم تنكمش أرجاء غرفتي... لكنّني أنا كبرت.. وما زال الحجر على حاله.. كبرت بكلّ ما في الكلمة من معنى.. فصارت أماكن الطّفولة لا تتّسع لما أنا عليه الآن...  

ولكن... هؤلاء الأشخاص الّذين قضيت جزءًا من حياتي بينهم... بالرّغم من أنّ كلٌّ منّا تغيّر بحسب ما مرّ به من ظروف في الحياة... ما زلنا نحمل المشاعر الطّيّبة لبعضنا، رغم مرور السّنين... لا تزال الألفة موجودة.. وتكبر معنا.. نورثها إلى أولادنا.. وهكذا تستمرّ العلاقات الجميلة بين الأشخاص لتستمرّ الحياة...  

الأماكن والأشياء تبقى على حالها... تحمل صورًا وذكريات، طبعًا.. إنّما يأتي يوم وتصغر مساحتها علينا.. لا تتّسع إلى ما أصبحنا عليه.. على خلاف العلاقات الّتي نبنيها مع النّاس حولنا...  

عزيزتي... اختاري الأشخاص جيّدًا.. الّذين يكبرون معك.. الّذين تتشاركين وإيّاهم خبرات الحياة بحلوها ومرّها.. بفرحها وحزنها... أحسني الإختيار.. بعيدًا عن الّذين يشدّونك إلى الوراء.. وبمنأى عن الّذين يقيّدون نموّك.. لأنّك حين تكبرين بالخبرة والنّضوج والإدراك، سترين أنّ بعض الأمور لا تتّسع لحجم ما وصلت إليه...  

من أوفى؟!؟! الحجر أم البشر؟!؟! الحجر يحمل صورًا جامدة، لا حياة فيها... البشر يحمل صورًا حيّة، مليئة بالحياة والأصوات، بالمحبّة والألفة.. صورًا تتنفّس وتكبر معك على مرّ الأيّام...  

من أوفى؟!؟! الحجر أم البشر؟!؟! كلاهما وفيّان.. لكن، كلّ على طريقته...  

الوفاء, الذكريات, النضوج, العلاقات, خبرة الحياة, ذكريات الطفولة, النمو, العلاقات العائلية, الألفة بين الناس

  • عدد الزيارات: 1689